ابن خلدون.. بين “علم الاجتماع” وأروقة السلاطين

هذه الحالة المتقدمة والفريدة التي ولدت ونشأت في مدينة تونس عام 1332م، وتلقت علومها الشرعية واللغوية في زوايا مساجدها، لتنير طريقًا جديدًا في مسيرة الانسانية، وتغني بعلمها مشارق الأرض ومغاربها، مساهمة عن بروز ما اصطلح عليه “بعلم الاجتماع” بشكله الحديث. إنه عبد الرحمن ولي الدين أبو زيد بن خلدون، من أصول حضرمية ضاربة في الجذور، لم تمنعه صنوف الدهر وتكالب المصائب عن سلوك طرق طلب العلم الوعرة، وجدارته بالصدارة في كل مجالاته رغم الطاعون الذي فتك بمدينته وأرغمه على الرحيل عنها في بدايات الطريق.

ارتحل ابن خلدون طلبًا للعلم والمجد، وسجل أرقامًا قياسية في تنقله بين بلاطات الملوك والسلاطين، ولم يكن طلبه للمجد سهلًا أو باليسير، فقد نال منه السجن والتعب، وقضى ردحًا من حياته مطاردًا تارة ومؤتمنًا عند أحدهم تارةً أخرى، فقد شهدت عليه فاس وبسكرة وتلمسان، وتنقله بين الحفصيين الذين كادوا لبعضهم فارتدت عليه شرور خلافاتهم. واستقبلته غرناطة الأندلس بحفاوة وعلى رأسها سلطانها محمد بن يوسف الأحمر الذي توسط بينه وبين طاغية قشتالة فكان الصلح، فأقطعه السلطان قرية ومال ذاق بها لذة العيش قبل أن يطرد منها بعد أن كاد له أعداء النجاح ووشوا به وتآمروا عليه. صقلت هذه الرحلة الطويلة خبراته ونظرته العلمية لشؤون الحكم وتداول الدول والأيام حتى أمسى مستشارًا ألمعيًَا، ودبلوماسيًَا من العيار الثقيل.

تقلد هذا الاجتماعيَ العديد من المناصب في بلاطات السلاطين، ومكّن بين أساطين العلماء حتى برز، وصار علمًا بين مشرق ومغرب العالم الإسلاميَ، كاتبًا ومستشارًا وخطيبًا، حكيمًا وقاضيًا ومعلمًا محاضرًا في أزهر القاهرة، حيث تولى ابن خلدون القضاء بالإضافة لعمله في المدرسة القمحية مدرسًا وفقيهًا للمالكية، حتى أضحى على رأس أكبر تكية للفرق الصوفية “خانقاه بيبرس”. بقي هناك في حالات الصعود والهبوط، إلى أن رسى به الأمر قاضيًا لقضاة مصر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى